الإقرار القضائي يُعد أحد أهم وسائل الإثبات في النظام القضائي، لما يتمتع به من حجية قوية تجعل الواقعة محل الإقرار ثابتة في مواجهة المقر، مع إعفاء الطرف الآخر من عبء الإثبات. ومع ذلك، يخضع ذلك الإقرار لضوابط وأحكام دقيقة تضمن عدالته ومنع إساءة استخدامه.
نهدف من هذا المقال تقديم فهم شامل ومبسط لأحكام الإقرار القضائي، بما يعزز الوعي القانوني ويُمكّن من الاستفادة المثلى من هذه الوسيلة المهمة في إثبات الحقوق وحمايتها، حسب نظام الإثبات السعودي.
أولًا: شروط الشخص المُقر
نصت المادة (15) من نظام الإثبات، على أنه: “1- يشترط أن يكون المقر أهلاً للتصرف فيما أقر به. 2- يصح إقرار الصغير المميز المأذون له في البيع والشراء بقدر ما أذن له فيه. 3- يصح الإقرار من الوصي أو الولي أو ناظر الوقف أو من في حكمهم فيما باشروه في حدود ولايتهم“، وبيانه في الآتي:
1- تعريف الأهلية وأهميتها في الإقرار: الإقرار لا يُعتد به إلا إذا صدر عن شخص تتوافر فيه الأهلية القانونية،والأهلية تعني أن يكون المقر قادرًا على التصرف في الحق الذي يقر به، علمًا بأن المحكمة مُلزَمة بالتحقق من توافر الأهلية في المقر عند النظر في صحة الإقرار، وهو ما نصت عليه المادة (28) من الأدلة الإجرائية.
2- حالات عدم صحة الإقرار بسبب نقص الأهلية:
- المجنون: إقراره غير صحيح لأنه ليس أهلاً للتصرف.
- الصغير غير المميز: إقراره غير صحيح لعدم الأهلية، إلا إذا كان صغيرًا مميزًا ومأذونًا له بالتصرف فيما أقر به.
- المكره: إقراره غير صحيح بسبب وجود عيب في رضاه.
- المحجور عليه: إقراره غير صحيح فيما يتعلق بالأمور المحجور عليه فيها. ومع ذلك، يُعتد بإقراره في الأمور غير المحجور عليه فيها، مثل الزواج أو الطلاق، مع مطالبته بتنفيذ الإقرار بعد رفع الحجر عنه.
3- أحكام خاصة بإقرار الصغير المأذون له بالتصرف: يُعتبر إقرار الصغير المأذون له صحيحًا فيما أُذن له فيه، وكأنه صدر عن بالغ رشيد، والمحكمة تتحقق من وجود الإذن اللازم للتصرف الذي أقر به الصغير، علمًا بأن المرجع في تحديد التصرفات المأذون فيها للصغير هو ما ورد في نظام المعاملات المدنية.
4- إقرار الولي أو الوصي أو الناظر: صحيح إذا كان في حدود صلاحياتهم، والحارس القضائي والمصفي يُعتبران في حكم الوصي أو الناظر، ويُعتد بإقرارهم في نطاق ولايتهم، ولا يؤثر زوال الصفة عن الوصي أو الناظر على حجية الإقرار بعد صدوره.
5- إقرار الوكيل: الوكيل لا يملك حق الإقرار عن موكله إلا إذا تضمنت الوكالة تفويضًا خاصًا بالإقرار، وفقًا للمادة (51) من نظام المرافعات الشرعية والمادة (20) من الأدلة الإجرائية.
6- دور المحكمة: المحكمة مسؤولة عن التحقق من أهلية المقر أو صفته (ولي، وصي، ناظر، أو وكيل) ومدى صحة الإقرار في حدود صلاحياته.
ثانيًا: كيفية صدور الإقرار وشروط قبوله
المادة (16) من نظام الإثبات، تنص على أنه: “1- يكون الإقرار صراحة أو دلالة، باللفظ أو بالكتابة. 2- لا يقبل الإقرار إذا كذبه ظاهر الحال“، وبيانه في الآتي:
1- كيفية صدور الإقرار: الإقرار يصدر بطريقتين، هما:
- الإقرار الصريح: لا يشترط لفظ معين، وإنما يكفي التصريح بفعل الإقرار بشكل واضح.
- الإقرار الضمني: يتضمن التصريح بأمر يؤدي حتمًا إلى إثبات الواقعة المدعى بها، مثل حالة المدعى عليه الذي يجيب بأنه وفى القرض أو طلب تأجيل الوفاء، فهذا يُعد إقرارًا ضمنيًا بالقرض.
الإقرار، سواء كان صراحة أو دلالة، يمكن أن يكون شفهيًا أو مكتوبًا، كما في حالة الإقرارات المدونة في المحررات العادية أو المذكرات المقدمة للمحكمة.
بالنسبة لإقرار الأخرس، فهو يخضع للمادة (12) من نظام الإثبات التي تنص على أن إقرار الأخرس أو من في حكمه يكون بالكتابة، فإن لم يكن قادرًا على الكتابة، فيكون بإشارته المعتادة.
2- حكم الإقرار الذي يكذبه ظاهر الحال: إن الإقرار الذي يتعارض مع ظاهر الحال غير مقبول، سواء كان قضائيًا أو غير قضائي، وأمثلة:
- إقرار شخص بواقعة حدثت قبل ولادته.
- إقرار شخص ببنوة شخص آخر أكبر منه سنًا.
إذا كان الإقرار ينقسم إلى جزأين، أحدهما يكذبه ظاهر الحال والآخر لا، فإن الجزء المقبول هو الذي لا يكذبه ظاهر الحال، بشرط أن يكون الإقرار قابلاً للتجزئة، وفقًا للمادة (18) من نظام الإثبات.
ثالثًا: حجية الإقرار القضائي
المادة (17) من نظام الإثبات، تنص على أنه: “الإقرار القضائي حجة قاطعة على المقر، وقاصرة عليه“، وبيانه في الآتي:
1- الإقرار القضائي حجة قاطعة: الإقرار القضائي يتمتع بحجية قاطعة، مما يجعل الواقعة موضوع الإقرار ثابتة بحق المقر، ويُعفى الطرف الآخر (المقر له) من تقديم أدلة لإثباتها.
2- عدم جواز إثبات عكس الإقرار القضائي: لا يُسمح للمقر إثبات عكس إقراره، ولا تملك المحكمة صلاحية نقض دلالته؛ فهو ملزم لها دون أي سلطة تقديرية، مع استثناء ما ورد في الفقرة (2) من المادة (16) من نظام الإثبات.
3- إبطال الإقرار: رغم حجية الإقرار، يمكن للمقر طلب إبطاله إذا كان نتيجة غلط، أو تغرير، أو إكراه، كما سيُوضَّح لاحقًا في المادة (18) من النظام.
4- ثبات الحجية رغم زوال بعض الظروف: حجية الإقرار القضائي لا تزول بزوال صفة النائب الذي أصدر الإقرار، أو عند اعتبار الدعوى كأن لم تكن، أو حتى إذا نُقض الحكم أو أُلغي، وهو ما نصت عليه المادة (30) من الأدلة الإجرائية لنظام الإثبات.
5- حجية الإقرار القضائي قاصرة على المقر: إذ إن الإقرار القضائي يلزم المقر فقط، ولا يسري على الغير إلا في حالات محددة، وهي:
- الخلف العام: إقرار المورث يسري على الورثة باعتبارهم خلفًا عامًا.
- عدم إلزام الشركاء أو الورثة الآخرين: فإقرار الشريك لا يلزم باقي الشركاء، وكذلك إقرار المالك في المال الشائع لا يسري إلا في حدود نصيبه، وأيضًا إقرار أحد الورثة لا يلزم البقية.
هذه الحدود في حجية الإقرار تهدف إلى حماية حقوق الغير، إذ لا يُعتبر الإقرار حجة عليهم لأنهم لم يشاركوا في الدعوى ولم تتاح لهم فرصة الدفاع عن حقوقهم.
رابعًا: الرجوع عن الإقرار
المادة (18) من نظام الإثبات، تنص على أنه: “۱- يلزم المقر بإقراره، ولا يقبل رجوعه عنه. ٢- لا يتجزأ الإقرار على صاحبه، إلا إذا انصب على وقائع متعددة، وكان وجود واقعة منها لا يستلزم حتماً وجود الوقائع الأخرى“، وبيانه في الآتي:
1- القاعدة العامة: الإقرار سواء كان قضائيًا أو غير قضائي، يُلزِم المقر فور صدوره منه، بشرط أن يكون صادرًا عن شخص يتمتع بالأهلية المعتبرة واستوفى شروطه النظامية.
2- أثر الإقرار: لا يجوز للمقر الرجوع عن إقراره متى استوفى شروطه، والإقرار لا يحتاج إلى قبول من المقر له أو حضوره وقت الإقرار، علمًا بأن المقر له يحق له الاطلاع على مضمون الإقرار ومناقشة المقر، كما يمكنه رد الإقرار، وفي هذه الحالة يسقط الإقرار ويعود إثبات الدعوى وفق النظام.
3- الإقرار الصحيح: يُشترط أن يكون خاليًا من عيوب الإرادة (الغلط، التغرير، الإكراه)، ويكون عبء إثبات وجود عيب في الإرادة واقعًا على عاتق المُقِر، لأنه يدعي البطلان، مع العلم أن الأصل هو سلامة الإقرار وصحته، وتجدر الإشارة إلى أن طلب إبطال الإقرار لوجود عيب في الإرادة لا يُعتبر رجوعًا عنه، بل تصحيحًا لعيب فيه.
4- مثال على الغلط الذي يجيز إبطال الإقرار: وراث يقر بوجود دين على مورثه ثم يجد لاحقًا مستندًا يثبت سداد الدين، فيكون هذا الإقرار مخالف لظاهر الحال، ويجوز الرجوع فيه.
خامسًا: تجزئة الإقرار
الإقرار، بحسب الأصل، لا يجوز تجزئته. ومع ذلك، يجب التفريق بين أنواعه المختلفة، حيث يُحدد النظام قواعد خاصة لكل نوع على النحو الآتي:
النوع الأول: الإقرار البسيط (التام أو الكامل)
1- التعريف: هو إقرار الشخص بالحق بشكل مطابق تمامًا لما يدعيه خصمه، دون أي تعديل أو إضافة.
2- الخصائص: هذا النوع من الإقرار يتطابق كليًا مع موضوع الدعوى، ولا يقبل التجزئة.
3- مثال: إذا ادعى المدعي بقرض مؤجل، وأقر المدعى عليه بالقرض والأجل، فهذا يُعد إقرارًا بسيطًا لا تجوز تجزئته.
النوع الثاني: الإقرار الموصوف
1- التعريف: هو الإقرار بالواقعة المدعى بها، مع إضافة وصف مرتبط بها نشأ معها في نفس الوقت ولا يقبل الفصل عنها.
2- الخصائص: لا يُجزأ، فإما أن يقبله المقر له بكامله، أو يرفضه بكامله، وإذا رفض المقر له الإقرار بكامله، فإن الإثبات يعود إلى قواعد الإثبات المنصوص عليها في النظام، وسبق أن شرحناها في مقالنا التالي [البينة على من ادعى].
3- طريقة الإثبات في حالة رفض الإقرار: ما يجب إثباته كتابة يُثبت بالكتابة، وما يمكن إثباته بالشهادة يُثبت بالشهادة، علمًا بأن المدعي يتحمل عبء إثبات الدين الذي يدعيه، والمدعى عليه يتحمل عبء إثبات الوصف (مثل الأجل) الذي أضافه.
4- حق المقر له في إثبات عكس الواقعة المضافة: إذ يمكن للمقر له إثبات عكس ما أضافه المقر إلى الواقعة، ويتم الإثبات وفق القواعد النظامية، مثل الكتابة أو الشهادة.
5- مثال: إذا أقر المدين بدين يزيد عن مائة ألف ريال، ولكنه أضاف أجلاً للسداد، فإن إثبات أن الدين حال يُثبت بالكتابة، لكون الدين محل الإقرار لا يُثبت إلا كتابة بحسب الأصل.
النوع الثالث: الإقرار المركب
1- التعريف: هو الإقرار الذي يتضمن واقعتين متتاليتين أو أكثر، بحيث تكون إحداهما لاحقة للأخرى، ولا تعتمد إحداهما على الأخرى.
2- الخصائص: يقبل التجزئة، لأن الوقائع الواردة فيه متعددة ومستقلة عن بعضها البعض، ويمكن الأخذ بجزء من الإقرار ورفض الجزء الآخر.
3- مثال: إذا أقر شخص بوجود دين عليه ثم أضاف أنه قد وفاه، يُقبل الإقرار بالدين، أما الإقرار بالوفاء فيُعتبر دعوى مستقلة تحتاج إلى دليل لإثباتها.
دور المحكمة في تجزئة الإقرار
1- عند دفع أحد الخصوم بتجزئة الإقرار، يجب على المحكمة أن تفصل في هذا الدفع، إما بالقبول أو الرفض، وفقًا لأحكام النظام.
2- المحكمة ملزمة بتوضيح أسباب قرارها بقبول أو رفض تجزئة الإقرار في المحضر الرسمي.
3- هذا ما نصت عليه المادة (33) من الأدلة الإجرائية، بأنه: “في حال الدفع بما يترتب عليه تجزؤ الإقرار، فعلى المحكمة أن تُقرر ما تراه، وتبين أسباب ذلك في المحضر“.
موضوعات أخرى قد تهمك