إن المُنظِم السعودي حينما وضع نظام العمل فهو كان يعلم تمام العلم بأن العامل هو الطرف الأضعف في العلاقة العمالية، لذلك؛ يُلاحَظ أن غالب المواد النظامية المنصوص عليها في نظام العمل قد وضعِت لتُراعي هذا الضعف لجهة العامل، ومن أهم تلك المواد هي المادة 81 من نظام العمل.
ولإدراك مدى أهمية هذه المادة؛ فيجب أن نُبين سبب وضعها، ويرجع السبب إلى أن عقد العمل سواء أكان محدد المدة أو غير محدد المدة فهو مُلزِم لطرفيه، فلا يملك العامل أو صاحب العمل إنهاء العقد إلا بالتراضي بينهما، أو بالطريق المرسوم له نظامًا، وإذا ما تحدثنا عن عقد العمل محدد المدة، فالأصل فيه أنه لا يجوز إنهاؤه إلا بعد أن تنتهي مدته، وأما عن العقد غير محدد المدة، وعلى الرغم من أنه يُجيز لأي طرف الحق في إنهاؤه بأي وقت بموجب إشعار، إلا أنه يُشتَرط أن يكون الإنهاء لسبب مشروع.
وهكذا؛ يتبين أن إنهاء عقد العمل أثناء سريانه ليس بالأمر السهل، وتزداد المسألة صعوبةً عند النظر إلى التبعات التي يتعرض لها الطرف الذي يُقرر إنهاء العقد بسبب غير مشروع، فإذا ما قرر العامل ترك العمل دون اتباع المسلك النظامي في إنهاء عقد العمل؛ فإنه يكون منهيًا للعقد إنهاءً غير مشروعٍ، ويصبح مُلزمًا بتعويض صاحب العمل بمبالغ ضخمة قد تصل في بعض الحالات إلى مئات الآلاف من الريالات، وفقًا للمادة (77) من نظام العمل.
ولعل الصورة بدأت تضح لكم، ففي غالب الحالات، وطالما أنه قد نشأ بين العامل وصاحب العمل خلافات، فإنه لا يتصور أبدًا أن يتم إنهاء العقد بالتراضي بينهما، كما أن العامل قد يتعرض في العمل إلى مضايقات شديدة من جانب صاحب العمل كالامتناع عن تسليم الرواتب لأشهر متتالية، أو التكليف بأعمال تختلف اختلافًا جوهريًا عن العمل المتفق عليه من البداية، وغيرها من المضايقات التي لا حصر لها.
وهنا يأتي السؤال: هل يتصور أن يظل العامل متحملًا كل هذه المضايقات، ويقف عاجزًا، ولا يقدر على ترك العمل خشيةً من أن يكون منهيًا للعقد إنهاءً غير مشروع، بل ومُلتزمًا بتعويض صاحب العمل؟! وما الوضع لو كان عقد العمل متبقيًا على مدته سنوات أو أشهر طويلة، فهل متصور أن يتحمل العامل كل هذه المدة دون أن يُحرِك ساكنًا؟! بالطبع هذا غير متصور؛ لما فيه من ظُلمٍ وجورٍ شديدٍ بالعامل، وهو ما لا تقبله أحكام الشريعة الإسلامية الغراء، وهي أساس الأنظمة السعودية.
ومن هذا المنطلق، ولتلافي هذه الإشكالية؛ جاءت المادة 81 من نظام العمل لتنص على عدد من الحالات التي تُجيز للعامل ترك العمل دون الحاجة لأخذ موافقة صاحب العمل من الأساس، ودون أن يكون العامل ملتزمًا بأي التزام تجاه صاحب العمل سواء بالتعويض أو الإشعار، فبمجرد أن تتحقق أي حالة من تلك الحالات؛ يكون من حق العامل إنهاء عقد العمل بإرادته المُنفرِدة، بل ويحتفظ العامل حينها بكامل حقوقه العمالية المنصوص عليها نظامًا، من أجور متأخرة أو بدل إجازات سنوية أو مكافأة نهاية خدمة أو شهادة خبرة أو استعادة مصوغات تعيينه، أو تذكرة سفر العودة لبلده، وغيرها من الحقوق العمالية.
ولقد حددت تلك المادة هذه الحالات على سبيل الحصر، وعددها (7) حالات، وسنُسلِط الضوء في مقالنا على الشرح التفصيلي لكل حالة لبيانها وتوضيح شروط تحققها، وذلك فيما يلي:
الحالة الأولى: إخلال صاحب العمل بالتزاماته الجوهرية
فقد تضمنت المادة 81 من نظام العمل ما نصه: “يحق للعامل أن يترك العمل.. 1) إذا لم يقم صاحب العمل بالوفاء بالتزاماته العقدية أو النظامية الجوهرية إزاء العامل“، وتعد هذه الحالة من أهم الضمانات التي يكفلها نظام العمل لحماية حقوق العامل، حيث تعطيه الحق في ترك العمل في حال إخلال صاحب العمل بالتزاماته الجوهرية، وهذه الالتزامات تنقسم إلى نوعين رئيسيين: الالتزامات العقدية، والالتزامات النظامية، نتناولهما فيما يلي:
1- الالتزامات العقدية: هي التي يتم النص عليها في عقد العمل المُبرم بين صاحب العمل والعامل، سواء أكان عقد عمل ورقي أو عقد عمل إلكتروني موثق من خلال “منصة قوى”، أو مُعتمَد من الغرفة التجارية، فكل هذه الصور لعقد العمل وما تتضمنه من التزامات، يكون صاحب العمل مُجبرًا على الوفاء بها جميعًا.
ومن أمثلتها: الالتزام بسداد الأجرة في مواعيد استحقاقها دون تأخير، والالتزام بسداد البدلات المُتفق عليها كبدل السكن، وبدل المواصلات، وبدل التنقل، وكذلك الالتزام بتكاليف تذكرة السفر في الإجازات بالنسبة للعامل غير السعودي، وغيرها.
2- الالتزامات النظامية: هي التي يتم النص عليها في نظام العمل السعودي الصادر بالمرسوم الملكي رقم (م/51) وتاريخ 23/08/1426هـ، وكذلك اللوائح التنفيذية التي تصدر لهذا النظام، والتعاميم التي تصدر من الوزارات والجهات الحكومية المعنية.
ومن أمثلتها: الالتزام بمنح العامل إجازته السنوية، وإجازة الأعياد، وأيام الراحة الأسبوعية، والالتزام بتوفير التأمين الطبي للعامل، وكذلك الالتزام بنقل كفالة العامل لدى صاحب العمل، وغيرها.
3- شرط الصفة الجوهرية للالتزام: لا يكفي امتناع صاحب العمل عن الوفاء بأي التزام من الالتزامات العقدية أو النظامية تجاه العامل؛ للقول بحق العامل في ترك العمل بموجب تلك المادة، وإنما يُشتَرَط أن يكون هذا الالتزام ذو طابع جوهري، فلا يكون للإخلال أي أثر لو كان إخلالًا بسيطًا أو غير جسيم.
فعلى سبيل المثال: لو أن صاحب العمل تأخر عن تسليم الراتب أيام معدودة أو لشهر واحد أو شهرين، وكذلك لو تأخر صاحب العمل عن نقل كفالة العامل لمدة قصيرة من بدء العمل، فهذه الأمور قد لا تعتبر من قبيل الإخلالات الجوهرية، علمًا بأن تقرير مدى جوهرية الالتزام من عدمه هو أمر تقديري يرجع بأكمله إلى سلطة المحكمة العمالية ناظرة الدعوى في حال نشوء النزاع بين الطرفين.
الحالة الثانية: إدخال صاحب العمل الغش على العامل
فقد تضمنت المادة 81 من نظام العمل ما نصه: “يحق للعامل أن يترك العمل.. 2) إذا ثبت أن صاحب العمل أو من يمثله قد أدخل عليه الغش وقت التعاقد فيما يتعلق بشروط العمل وظروفه“، وهذه الحالة تعتبر من الأساسيات في أي علاقة تعاقدية عمومًا، ولا تقتصر فقط على عقد العمل، فالاحتيال أو الغش يعد من مُبطلات العقود في الشريعة والنظام، ويُعبَر عنه في الفقه القانوني بلفظ [التدليس]. ويتطلب تحقق هذه الحالة بعض الشروط الأساسية التي يجب أن تكون واضحة لضمان حقوق الطرفين، وتتمثل هذه الشروط فيما يلي:
1- ثبوت الغش: يجب أن يكون هناك دليلًا قاطعًا يثبتُ أن صاحب العمل أو من يمثله قد ارتكب فعلًا ينطوي على الغش، ويمكن أن يكون هذا الدليل في شكل مستندات، أو شهادة شهود، أو مُراسلات ورقية أو إلكترونية، أو أي وسيلة أخرى تعزز ادعاء العامل بتعرضه للغش.
2- صدور الغش عن صاحب العمل أو من يمثله: يجب أن يكون الغش قد صدر من الشخص المسؤول عن العمل، سواء كان صاحب العمل نفسه أو من ينوب عنه، مثل المدير أو المسؤول المباشر عن عملية التعاقد، وهذا يشمل أي شخص له سلطة التأثير على شروط التعاقد أو ظروفه.
3- أن يكون الغش وقت التعاقد: يتحقق الغش إذا تم وقت إبرام العقد بين الطرفين، أي أن الغش أو التدليس يجب أن يحدث في مرحلة التعاقد وتوقيع العقد، ولا يُعتَد بأي فعل أو غش قد يحدث فيما بعد، ويكون له أثر نظامي مختلف لا يخضع للمادة محل النقاش.
4- أن يرد الغش على شروط العمل أو ظروفه: يجب أن يكون الغش مرتبطًا بشكل مباشر بشروط العقد المتفق عليها أو بظروف العمل التي تم التعهد بها، قد يشمل ذلك الأجور، ساعات العمل، نوعية العمل، أو أي شرط آخر يعد جوهريًا للعقد، فإن لم يكن الغش متعلقًا بهذه الأمور، فقد لا يكون سببًا كافيًا لإنهاء العقد من قِبَل العامل.
ومن أمثلة ذلك: أن يتعاقد شخص للعمل كمحاسب، ولكنه يتفاجأ بعد بدء العمل بأنه مكلف بالقيام بأعمال إدارية أو بدنية مختلفة تمامًا عن المحاسبة، فإن ذلك يُعتبر غشًا، أو إذا كان الاتفاق على أن يكون مكان العمل في الرياض، ولكن بعد التعاقد يُفاجأ العامل بأن العمل من مدينة جدة، فهذا يُعتبر غشًا يؤثر على ظروف العمل.
الحالة الثالثة: التكليف بعمل مختلف اختلافًا جوهريًا
فقد تضمنت المادة 81 من نظام العمل، ما نصه: “يحق للعامل أن يترك العمل.. 3) إذا كلفه صاحب العمل دون رضاه بعمل يختلف جوهريًّا عن العمل المتفق عليه، وخلافًا لما تقرره المادة الستون من هذا النظام“، وهذه الحالة تضمن للعامل حقه في عدم تحمل مسؤوليات أو مهام لم يتفق عليها في بداية التعاقد، مما يعزز حماية حقوقه المهنية ويضمن استقراره في بيئة العمل.
لنأخذ مثالاً عمليًا: إذا كان العامل متخصصًا في مجال الهندسة وتم الاتفاق في عقد العمل على أداء مهام هندسية معينة، فلا يمكن لصاحب العمل أن يكلفه بأعمال إدارية أو بدنية تختلف اختلافًا جوهريًا عن طبيعته المهنية، وإذا حدث ذلك، يكون للعامل الحق في ترك العمل.
ولتحقق هذا الحق، يجب أن تتوافر عدة شروط لانطباق هذه الحالة:
1- الاختلاف الجوهري بين العملين: يجب أن يكون هناك اختلاف شاسع بين العمل المتفق عليه والعمل الجديد الذي كُلف به العامل، هذا الاختلاف يمكن أن يكون من حيث طبيعة المهام، المهارات المطلوبة، أو حتى بيئة العمل نفسها. فالفرق بين العملين يجب أن يكون واضحًا وكبيرًا لدرجة تؤثر على استقرار العامل وإحساسه بالظُلم في العلاقة التعاقدية.
2- عدم رضا العامل: من الشروط الأساسية لتطبيق هذه الحالة أن يكون العامل غير راضٍ عن هذا التكليف الجديد، هذا يعني أن العامل لو وافق على التكليف؛ فلا يمكنه التمسك فيما بعد بهذه الحالة، مع مراعاة الشرط أدناه.
3- شرط الكتابة لثبوت الرضا: وفقًا للمادة 60 من نظام العمل، يجب أن تكون موافقة العامل على تكليفه بعمل مختلف عن المتفق عليه مكتوبة، فهذا الشرط يهدف إلى حماية العامل من أي ضغوط قد تُمارس عليه لقبول العمل الجديد، فإذا لم تكن هناك موافقة كتابية من العامل، فلا يجوز لصاحب العمل تكليفه بعمل مختلف اختلافًا جوهريًا، وإذا فعل ذلك، يكون التكليف غير نظامي، ويحق للعامل ترك العمل.
4- انتفاء حالة الضرورة: استثناءً من الحظر العام على تكليف العامل بعمل مختلف، تجيز المادة 60 من نظام العمل تكليفه بعمل مختلف عن المتفق عليه دون موافقته الكتابية في حالات الضرورة التي تقتضيها ظروف عارضة، ولمدة لا تتجاوز ثلاثين يومًا في السنة، وهذه الحالات يمكن أن تشمل الظروف الطارئة أو الأحداث غير المتوقعة التي تتطلب تدخلًا سريعًا من العامل للحفاظ على سير العمل. ومع ذلك، إذا زادت فترة التكليف عن ثلاثين يومًا أو لم تكن هناك ضرورة تبرر هذا التكليف، فإن العامل يحتفظ بحقه في ترك العمل.
الحالة الرابعة: الاعتداء بالعنف أو السلوك المُخِل بالأداب
فقد تضمنت المادة 81 من نظام العمل ما نصه: “يحق للعامل أن يترك العمل.. 4) إذا وقع من صاحب العمل أو من أحد أفراد أسرته أو من المدير المسؤول اعتداء يتسم بالعنف، أو سلوك مخل بالآداب نحو العامل أو أحد أفراد أسرته“، وتهدف هذه الحالة إلى حماية كرامة العامل وسلامته الجسدية والنفسية من أي سلوك غير لائق أو اعتداء يمكن أن يتعرض له أثناء فترة عمله.
ولانطباق هذه الحالة، يجب تحقق عدة شروط رئيسية:
1- ثبوت الاعتداء أو السلوك المُخِل: يجب أن يكون هناك دليلًا قاطعًا على حدوث الاعتداء أو السلوك المُخل بالآداب، وهذا الدليل يمكن أن يتخذ عدة أشكال، مثل شهادات الشهود، تقارير الشرطة، والتقارير الطبية، أو تسجيل الكاميرات، أو أي وسيلة إثبات أخرى، والاعتداء يجب أن يتسم بالعنف مثل الضرب أو الإيذاء البدني. أما السلوك المُخل بالآداب، فقد يشمل أي تصرف غير لائق يتعارض مع القيم والأخلاق العامة، مثل التحرش الجنسي أو الإشارات البذيئة، والتصرفات غير اللائقة الأخرى، علمًا بأن وجود دليل يثبت هذه الأفعال هو عنصر حاسم في تأكيد حق العامل في ترك العمل.
2- صدوره من صاحب العمل أو أسرته أو المدير المسؤول: من المهم أن يكون الاعتداء أو السلوك المُخل قد صدر من صاحب العمل نفسه، أو من أحد أفراد أسرته، أو من المدير المسؤول في مكان العمل، فلا ينطبق هذا الحق إذا كان الاعتداء قد وقع من قِبَل زميل آخر للعامل، هذا الشرط يهدف إلى تحديد المسؤولية بشكل واضح وضمان أن صاحب العمل يتحمل مسؤولية سلوكياته وسلوكيات من هم تحت إدارته المباشرة.
3- تجاه العامل أو أحد أفراد أسرته: لحماية العامل بشكل شامل، يشمل هذا الحق أيضًا أي اعتداء أو سلوك مخل بالآداب يتعرض له أحد أفراد أسرة العامل من قبل صاحب العمل أو المدير المسؤول. على سبيل المثال، إذا تعرض أحد أفراد أسرة العامل للتحرش أو الاعتداء من قبل صاحب العمل، فإن العامل يحق له ترك العمل بموجب هذه المادة، وهذا التوسع في الحماية يضمن عدم تعرض العامل لضغوط أو تهديدات من خلال استهداف أسرته، مما يعزز من شعور الأمان والكرامة للعامل وأسرته.
الحالة الخامسة: قسوة صاحب العمل على العامل وإهانته
فقد تضمنت المادة 81 من نظام العمل ما نصه: “يحق للعامل أن يترك العمل.. 5) إذا اتسمت معاملة صاحب العمل أو المدير المسؤول بمظاهر من القسوة والجور أو الإهانة“، وهذه الحالة توفر للعامل الحماية من أي سلوك غير مقبول يصدر من صاحب العمل أو المدير المسؤول، بما يضمن الحفاظ على كرامة العامل وسلامته النفسية والمعنوية في بيئة العمل.
ولتفعيل هذا الحق، يجب تحقق عدة شروط رئيسية:
1- المعاملة القاسية أو المهينة: يجب أن تتسم معاملة صاحب العمل أو المدير المسؤول بصفات القسوة أو الإهانة بشكل واضح وملموس، والمعاملة القاسية قد تشمل ممارسات مثل فرض العمل في ظروف غير إنسانية أو غير آمنة، أو استخدام أساليب تعسفية في إدارة العمل مثل التهديد المستمر بالعقوبات أو الطرد دون مبرر، وأما الإهانة، فقد تشمل أي سلوك لفظي أو فعلي يقلل من كرامة العامل، مثل الشتم أو الإهانات العلنية أو السخرية المقصودة من العامل أمام زملائه، فوجود مثل هذه المعاملة يعد انتهاكًا صارخًا لحقوق العامل ويمكن أن يكون سببًا كافيًا لترك العمل.
2- صدورها من صاحب العمل أو المدير: يجب أن يكون السلوك القاسي أو المهين قد صدر مباشرة من صاحب العمل أو من المدير المسؤول في العمل، وهذا يشمل أي شخص له سلطة مباشرة على العامل في بيئة العمل، فإذا كان السلوك القاسي أو المهين صادرًا من زميل في العمل دون تدخل من صاحب العمل أو المدير المسؤول، فلا ينطبق هذا النص النظامي.
3- التوافق مع المادة 61 من نظام العمل: تنص هذه المادة على أنه: “يجب على صاحب العمل أن يمتنع عن تشغيل العامل سخرة، وأن يعامله بالاحترام اللائق، وأن يمتنع عن كل قول أو فعل يمس كرامتهم ودينهم”، وهي تؤكد على التزام صاحب العمل بتوفير بيئة عمل تتسم بالاحترام والكرام، وأي انتهاك لهذه الالتزامات من خلال القسوة أو الإهانة يعتبر مخالفة جسيمة لحقوق العامل ويبرر تركه للعمل.
الحالة السادسة: وجود خطر جسيم يهدد سلامة العامل أو صحته
فقد تضمنت المادة 81 من نظام العمل، ما نصه: “يحق للعامل أن يترك العمل.. 6) إذا كان في مقر العمل خطر جسيم يهدد سلامة العامل أو صحته، بشرط أن يكون صاحب العمل قد علم بوجوده، ولم يتخذ من الإجراءات ما يدل على إزالته“، فتوفر هذه الحالة للعامل حقًا مهمًا في ترك العمل إذا تعرض لظروف خطيرة تهدد حياته أو صحته، خاصة إذا كان صاحب العمل على علم بهذا الخطر ولم يتخذ الإجراءات اللازمة لإزالته.
ولانطباق هذه الحالة، يجب أن تتوفر الشروط التالية:
1- الخطر الجسيم: يجب أن يكون الخطر الموجود في مقر العمل خطيرًا وقادرًا على إلحاق ضرر جسيم بالعامل. يمكن أن يتخذ هذا الخطر أشكالًا متعددة، مثل التعرض لمواد كيميائية سامة دون حماية كافية، أو العمل في بيئة غير مستقرة مثل موقع بناء غير آمن، أو استخدام معدات معطوبة يمكن أن تتسبب في حوادث خطيرة. الخطر الجسيم يعني أن الوضع في العمل يتجاوز المخاطر العادية المرتبطة بالوظيفة ويتسبب في تهديد مباشر وجدي لسلامة العامل.
2- بمقر العمل: يجب أن يكون الخطر قائمًا في مقر العمل أو في المكان الذي يقوم فيه العامل بأداء مهامه الوظيفية، ويشمل ذلك كافة المواقع التي يتطلب العمل وجود العامل فيها، وتكون تحت سيطرة وإدارة صاحب العمل، سواء كانت داخل مقر الشركة أو خارجها، مثل مواقع البناء أو الورش أو المصانع.
3- تهديد سلامة العامل وصحته: يجب أن يشكل هذا الخطر تهديدًا واضحًا ومباشرًا لسلامة العامل أو صحته، وهذا التهديد يمكن أن يكون فوريًا، مثل احتمال وقوع حادث أو تعرض لإصابة جسدية خطيرة، أو طويل الأمد مثل التعرض المستمر لعوامل تؤدي إلى مشاكل صحية مزمنة، على سبيل المثال، إذا كان العامل يتعرض باستمرار لأبخرة ضارة دون توفير وسائل الحماية اللازمة، فهذا يمثل تهديدًا خطيرًا لصحته.
4- علم صاحب العمل: يجب أن يكون صاحب العمل على علم بوجود هذا الخطر، والعلم هنا يمكن أن يكون من خلال تبليغات من العاملين، أو من خلال تقارير الفحص الدوري لسلامة بيئة العمل، فإذا تم إبلاغ صاحب العمل عن وجود الخطر، سواء شفهيًا أو كتابيًا، فإنه يكون مسؤولًا عن اتخاذ الإجراءات اللازمة لإزالته، والعلم يعني أيضًا أن صاحب العمل لا يمكنه التذرع بالجهل بوجود الخطر إذا كانت الظروف تشير إلى أنه كان يجب عليه معرفته.
5- التقاعس عن اتخاذ إجراء: حتى بعد علم صاحب العمل بالخطر، يجب أن يكون قد تقاعس عن اتخاذ أي إجراءات تدل على محاولته إزالة أو تقليل هذا الخطر، والتقاعس هنا يعني أن صاحب العمل لم يتخذ أي خطوة جدية لمعالجة الوضع، سواء من خلال تحسين ظروف العمل، أو توفير معدات الأمان، أو تغيير بيئة العمل لتكون أكثر أمانًا.
من خلال هذه الشروط، يضمن النظام حماية العامل من أي مخاطر جسيمة قد يتعرض لها في مكان العمل، ويؤكد على مسؤولية صاحب العمل في توفير بيئة عمل آمنة. إذا وجد العامل نفسه في وضع يعرض حياته أو صحته للخطر، ولم يتحرك صاحب العمل لمعالجة هذا الوضع، فإن العامل يكون في حل من التزاماته تجاه العمل، ويحق له ترك العمل مع الحفاظ على حقوقه النظامية.
الحالة السابعة: إجبار العامل على ترك العمل بالمعاملة الجائرة
فقد تضمنت المادة 81 من نظام العمل، ما نصه: “يحق للعامل أن يترك العمل.. 7) إذا كان صاحب العمل أو من يمثله قد دفع العامل بتصرفاته وعلى الأخص بمعاملته الجائرة أو بمخالفته شروط العقد إلى أن يكون العامل في الظاهر هو الذي أنهى العقد“، وهذه الحالة تهدف إلى حماية العامل من التصرفات التعسفية أو غير العادلة التي تصدر عن صاحب العمل، والتي تؤدي بشكل غير مباشر إلى دفع العامل لترك العمل، في حين يبدو من الظاهر أن العامل هو من أنهى العقد.
لتفعيل هذا الحق، يجب أن تتحقق الشروط التالية:
1- تصرفات صاحب العمل أو ممثله: يجب أن يكون هناك تصرفات محددة صادرة من صاحب العمل أو من يمثله تؤدي إلى وضع العامل في موقف لا يمكنه الاستمرار في العمل، وهذه التصرفات يمكن أن تشمل العديد من الأفعال مثل التضييق المتعمد على العامل في العمل، فرض مهام تعجيزية، أو اتخاذ قرارات تنطوي على تمييز أو ظلم بحق العامل، أو الامتناع عن إسناد أي عمل إلى العامل لمدة طويلة جدًا على الرغم من وجود أعمال يمكن إسنادها، فالهدف من هذه التصرفات هو دفع العامل بشكل غير مباشر إلى الاستقالة أو ترك العمل، فعلى سبيل المثال، إذا قام صاحب العمل بنقل العامل إلى وظيفة أقل من مستواه المهني دون مبرر أو حرمه من حقوقه المالية المتفق عليها في العقد، فهذا يمكن أن يدفع العامل إلى إنهاء العقد.
2- المعاملة الجائرة: يجب أن تكون معاملة صاحب العمل للعامل غير عادلة بشكل واضح، بحيث يشعر العامل بالإجبار على ترك العمل، والمعاملة الجائرة يمكن أن تشمل سوء المعاملة اللفظية، تقليل الأجر بدون سبب مشروع، أو أي تصرفات أخرى تجعل من المستحيل على العامل الاستمرار في بيئة العمل. على سبيل المثال، إذا كان صاحب العمل يستغل سلطته لتقليل مكانة العامل أو استبعاده من مزايا يستحقها بموجب العقد، فإن هذه المعاملة تعد جائرة وتبرر ترك العامل للعمل.
3- مخالفة شروط العقد: إذا قام صاحب العمل بمخالفة شروط العقد المتفق عليها، وكان ذلك سببًا رئيسيًا في ترك العامل للعمل، فإن ذلك يعد سببًا مشروعًا لترك العمل بموجب المادة 81، ومخالفة شروط العقد قد تشمل عدم دفع الأجور في مواعيدها، عدم الالتزام بتوفير ظروف العمل المناسبة، أو تغيير شروط العمل بشكل جوهري دون موافقة العامل. على سبيل المثال، إذا كان العقد ينص على ساعات عمل محددة وقام صاحب العمل بزيادة ساعات العمل بشكل مفرط دون تعويض إضافي، فإن ذلك يُعتبر مخالفة لشروط العقد.
4- دفع العامل لترك العمل ظاهريًا: يجب أن تكون نتيجة تصرفات صاحب العمل أو ممثله هي دفع العامل إلى ترك العمل، بحيث يبدو للعامل أو للآخرين أنه هو الذي أنهى العقد بإرادته، وهذا الشرط يعني أن العامل لم يكن يرغب في الأصل بترك العمل، ولكن الظروف التي خلقها صاحب العمل جعلته يشعر بعدم وجود خيار آخر سوى الاستقالة، وهنا، يكون الظاهر أن العامل هو من أنهى العقد، ولكن الواقع أن تصرفات صاحب العمل هي التي أدت إلى ذلك.
شرط الإثبات للاستفادة من حالات المادة 81 من نظام العمل
بعد أن بينّا كافة الحالات المنصوص عليها في المادة 81 من نظام العمل، نأتي إلى أهم شرط يتعين تحقيقه حتى يكون للعامل الحق في ترك العمل بناءً على أي حالة من هذه الحالات، وهو “وجوب إثبات سبب ترك العمل أصلًا“، فلا يكفي أن يذكر العامل أنه تعرض للضرب مثلًا أو أنه كان يُعامل معاملة جائرة من قِبَل صاحب العمل، فالمحكمة العمالية لا تعتد بمجرد الأقوال، وإنما يتعين إقامة الدليل والبينة على هذه الأسباب.
وهذا ما أكده نظام الإثبات في مادته رقم (2)، بما نصها: “على المدعي أن يثبت ما يدعيه من حق..“. هذا يعني أن العامل الذي يدعي تعرضه لإحدى الحالات السبعة التي فصلناها أعلاه، يجب عليه أن يقدم أدلة ملموسة وقاطعة تثبت صحة ادعاءاته، وهذه الأدلة يمكن أن تشمل شهادات شهود، وثائق مكتوبة، تقارير طبية، تسجيلات أو مراسلات، وغيرها من الوسائل التي تساهم في دعم ادعاء العامل.
وقد أكدت المحكمة العليا في مبدأها القضائي رقم (2296) على هذه النقطة بشكل صريح، حيث نصت على أن “ما أضافه الشخص إلى نفسه لا يقبل حجة له بمجرد قوله“. بمعنى آخر، لا يمكن لأي طرف أن يثبت حقًا يدعيه بناءً على أقواله فقط، بل يتعين عليه تقديم أدلة موثوقة تثبت صحة ما يدعيه.
هذا الشرط الجوهري للإثبات يهدف إلى ضمان أن تكون أحكام المحكمة العمالية مبنية على وقائع وأدلة ملموسة، وليس على ادعاءات غير مدعومة بالبراهين، كما يساهم في حماية حقوق جميع الأطراف في النزاع العمالي.
موضوعات أخرى قد تهمك:
عادل الحارثي
كفيتم ووفيتم